المنطق الوجداني

المنطق الوجداني

لقد جاء القرآن لينشيء عقيدة ضخمة _عقيدة التوحيد _ بين قوم يشركون بالله آلهة أخرى، ويكون من العجب العاجب عندهم أن يقول لهم قائل: إن الله واحد: (أجعلَ الآلهةَ إلهاً واحداً ؟ إن هذا لشيءٌ عُجاب‍! وانطلق الملأُ منهم: أن امشوا، واصبروا على آلهتكم، إن هذا لشيءٌ يُرادُ. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة. إن هذا إلا اختلاق)!
ولقد ننظر نحن اليوم إلى هذه القضية نظرة أخرى؛ ولقد نضحك من هذه الطفولة البادية في هذه المقالة؛ ولكن لا مفر من أن ننظر إلى المسألة على وضعها يومذاك، حيث كان التوحيد يُتلقى بكل هذا العجب في ذلك الزمان.
ولم يكن كل من واجههم القرآن بدعوته من هؤلاء العرب السذج المشركين بالله. لقد كان هناك أهل الكتاب. وهؤلاء كانوا يكرهون أن يأتي دين جديد يعفّي على دينهم، وينزل على رجل ليس منهم، ولو كان هذا الدين متفقاً مع دينهم في الأساس. (وكانوا من قبلُ يستفتحون على الذين كفروا. فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به...).
وحقيقة إن الاسلام لم يكن أول دين يدعو إلى التوحيد. ولكن لقد وجدت الأديان كلها من العنت بسبب دعوة التوحيد مثلما لاقى الاسلام. على أن التوحيد الذي دعا إليه الاسلام كان توحيداً تجريديّاً مطلقاً، أمعن في التجريد من كل توحيد قبله؛ فهو أشد معارضة لما وقر في النفوس من التجسم والتشبيه من كل أديان التوحيد.
كانت وظيفة القرآن إذن أن ينشيء هذه العقيدة الخالصة المجردة. وموطن العقيدة الخالد هو الضمير والوجدان. وأقرب الطرق إلى الضمير هو البداهة، وأقرب الطرق إلى الوجدان هو الحس، وما الذهن في هذا المجال إلا منفذ واحد من منافذ كثيرة؛ وليس هو على أية حال أوسع المنافذ ولا أصدقها ولا أقربها طريقاً.
***
لقد عمد القرآن دائماً إلى لمس البداهة، وإيقاظ الاحساس، لينفذ منهما مباشرة إلى البصيرة، ويتخطاهما الى الوجدان. وكانت مادته هي المشاهد المحسوسة، والحوادث المنظورة، أو المشاهد المشخصة، والمصائر المصوّرة. كما كانت مادته هي الحقائق البديهية الخالدة، التي تتفتح لها البصيرة المستنيرة، وتدركها الفطرة المستقيمة.
أما طريقته فكانت هي الطريقة العامة: طريقة التصوير والتشخيص، بالتخييل والتجسيم.
كان هذا هو المنطق الوجداني الذي جادل به القرآن وناضل، وكسب المعركة في النهاية.
في هذا المنطق اشتركت الألفاظ المعبرة، والتعبيرات المصورة، والصور الشاخصة، والمشاهد الناطقة، والقصص الكثيرة، التي تحدثنا عنها حتى الآن. وكل ما عرض من مشاهد القيامة وصور النعيم والعذاب، يعد في جملة هذا المنطق الذي يلمس الحس، ويوقظ الخيال، فيلمس البصيرة، ويوقظ الوجدان ويهييء النفس للاقتناع والاذعان.
***
كانت المشكلة الأولى التي واجهها الاسلام _كما قلنا _ هي مشكلة التوحيد مع جماعة تنكر هذا التوحيد أشد الانكار، وتعده إحدى الأعاجيب الكبار.
فلننظر كيف حاجهم في هذه القضية المعقدة.
لقد تناولها ببساطة ويسر، وخاطب البداهة والبصيرة، بلا تعقيد كلامي ولا جدل ذهني:
(أم اتخذوا آلهةً من الأرض هُم يُنشرون؟ لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لَفسدتا. فسبحانَ اللهِ رَب العرش عما يصفون! لا يُسألُ عما يفعلُ، وهُم يُسألون. أم اتخذوا من دونه آلهةً؟ قل: هاتوا برهانكم. هذا ذكرُ من مَعيَ وذكرُ من قبلي. بل أكثرُهم لا يعلمون الحق، فهم مُعرضون).
أو: (ما اتخذ اللهُ من ولد، وما كان معه من إله. إذن لذهَبَ كُلّ إله بما خَلقَ، ولعلاَ بعضُهم على بعض).
هكذا في بساطة البداهة، التي لا ترى في السماوات والأرض فساداً، إنما ترى نظاماً محكماً، يوحي بأن المدبر واحد، قادر عالمٌ حكيمٌ.
وهذه الصورة التي يخيّلها _لو كان هناك آلهة _ (إذن لَذهبَ كل إله بما خَلقَ) وإنها لصورة مضحكة، أن ينحاز كل فريق من المخلوقات إلى إله، وأن يأخذ كل إله مخلوقاته ويذهب، إلى أين؟ لا ندري! ولكننا نتخيل هذه الصورة فنضحك من فكرة تعدد الآلهة، إذا كانت نتيجتها هي هذه النتيجة!
ثم ماذا يصنع أولئك الآلهة الآخرون؟ وهذه هي الأرض، وتلك هي السماء. فما آثارهم هنا أو هناك؟
(قل أرَأيتم ما تَدعُون من دون اللهِ؟ أروني ماذا خَلقوا من الأرض؟ أم لهم شركٌ في السماوات؟ إيتوني بكتاب من قبل هذا، أو أثارَةٍ من علمٍ إن كُنتم صادقين).
***
وكانت المشكلة الثانية هي مشكلة البعث واليوم الآخر، مع جماعة تقول: (إن هي إلا حياتنا الدنيا، نموتُ ونحيا، وما نحن بمبعوثين) بل إنها لترى في حكاية البعث من العجب، أشدَّ مما ترى في حكاية الاله الواحد. إنها لتظن من يقول بهذا القول مجنوناً؛ فما يمكن أن يتحدث بهذا إلا المجانين!
(وقال الذين كفروا: هل نَدُلكم على رجل، ينبئكم _إذا مُزقتم كل مُمزق، إنكم لفي خَلق جديد! أفترى على الله كذباً، أم بهِ جنّة؟).
إلى هذا الحد من الغرابة كانوا يتلقون حكاية البعث. فكيف جادلهم في هذا الشأن العجيب؟!
إنه عرض عليهم صور الخلق الظاهرة والخفية؛ وبسط لهم نشأة الحياة في الأرض عامة وفي الانسان خاصة، ليروا أن الذي بدأ الخلق يستطيع أن يعيده:
(أفعيينا بالخلقِ الأوّلِ؟ بل هُم في لبس من خَلقٍ جديد).
وبطريقة التصوير المعهودة راح يعرض عليهم مشاهد الحياة في الأرض وفي الانسان:
(قُتلَ الانسانُ! ما أكفرَه! من أي شيء خَلقهُ؟ من نُطفةٍ خلقهُ فقدَّره، ثم السبيلَ يسَّره، ثم أماتَهُ فأقبرَهُ، ثم إذا شاء أنشره. كلا لمَّا يقض ما أمرَه. فَلينظر الانسانُ إلى طعامه: أنّا صببنا الماء صبّاً، ثم شققنا الأرض شقّاً؛ فأنبتنا فيها حبّاً وعنباً وقضباً، وزيتوناً ونخلاً، وحدائق غُلبا، وفاكهةً وأبّاً، متاعاً لكم ولأنعامكم).
وهكذا يعرض عليهم في كل مرة مشاهد مألوفة: محسوسة أو معروفة، تطالع حواسهم في كل لحظة، وتوجه بديهتهم في كل نظرة، وتتصل بحياتهم ومعاشهم، وتلمس شعورهم ووجدانهم، وتسلك طريقها هينة إلى نفوسهم. وهو يوجههم إلى هذه المشاهد بعرضها عليهم كأنها مشاهد جديدة _وإن مشاهد الطبيعة لجديدة أبداً عند من ينظر إليها بحس مرهف وعين مفتوحة _دون أن يثير ذلك الجدل الذهني. الذي قد يعتمد على المهارة، أكثر مما يعتمد على الحقيقة.
ولقد يتخطى منطقة الذهن كلها، ومنطقة الحواس جميعها، ليتصل مباشرة بمكمن العقيدة، حيث تتصل النفس مباشرة بالمجهول؛ وتجد في غموضه وبعده عن الحس والذهن ملاذاً ومتاعاً مجتمعين ولكنه حتى في هذا يختار طريقة التصوير والتخييل.
(ألم ترَ أن الله يسبح لهُ من في السماوات والأرض، والطيرُ صافّات كل قد علم صلاته وتسبيحه؟).
(تُسبح له السماوات السبع والأرض، ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم).
وقد لا يكون الغيب هكذا بعيداً. لقد يكون محسوساً، ولكنه مجهول، فهو كذلك يلمس الوجدان، ويثبت القدرة الكونية، ويملأ النفس بالايمان:
(إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) فهذا دليل العلم بكل خفي. وهو دليل وجداني واقع، لايكد الذهن في فهمه وتخريجه.
ومثل هذا في محيط أوسع. وبتصوير أروع:
(وعنده مفاتيح الغيب. لا يعلمها إلا هو. ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس، إلا في كتاب مبين).
ففي هذه الكلمات القلائل، تعبير قوي رهيب عن شمول علم الاله، مختار له أفضل الألفاظ المعبرة، والعبارات المصورة. فليس مجرد تعبير عن معنى العلم الدقيق الشامل أن يقال، (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها). (ولا حبة في ظلمات الأرض). (ولا رطبٍ ولا يابس). إنما هي صورة تخييلية مدهشة. وإن الخيال ليرود آفاق الدنيا كلها، ومجاهلها جميعاً، ليتتبع هذه الأوراق الساقطة، وتلك الحبات المخبوءة المشمولة في مجاهلها ومخابئها بعلم الله. ثم يرتد إلى النفس، فيغمرها بالجلال والخشوع، ويتوجه بها إلى الله الذي يشمل بعلمه هذه المجاهل والآفاق.
***
ذلك هو المنطق الوجداني، والجدل التصويري. فأين منه ذلك الجدل الذهني الذي ظل علماء الكلام يبدئون فيه ويعيدون قروناً من الزمان؟
نضرب هنا مثلا واحداً من الجدل الذهني الذي عزف عنه القرآن. ذلك حين قال (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) وما هو مثلها في المعنى. فوجد المشركون من العرب في هذا مجالا لجدل ذهني رخيص ظنوا أنهم يحرجون به محمداً مع أهل الكتاب. قالوا: وعيسى ابن مريم؟ هؤلاء جماعة من قومه يؤلهونه. أيدخل جهنم هو الآخر؟
فكان الرد الحكيم: (ما ضربوه لك إلا جدلا. بل هم قومٌ خصمون).
فهذا الذي قالوه مثل من المنطق الذهني. صحيح من وجهة قواعد المنطق الشكلية. ولكن أين هو من المنطق السليم، ومن الحقيقة الطبيعية البسيطة؟
لم يكن المنطق الذهني ليصل إلى شيء لو اتبعه القرآن؛ لا لأن ما فيه من حقائق لا تثبت لهذا المنطق؛ ولكن لأن العقيدة لا ينشئها هذا الجدل. إنها دائماً في أفق أعلى من هذه الأفاق. وما يعيب العقيدة أن يكن عمل الذهن فيها محدوداً. فما الذهن إلا قوة صغيرة محدودة، تتعلق باليوميات، وما هو بسبب من اليوميات.
***
لقد لمس القرآن الوجدان؛ واتبع في ذلك طريقة التصوير؛ فبلغ الغاية بمادته وطريقته، وجمع بين الغرض الديني والغرض الفني، من أقرب طريق ومن أرفع طريق.